سورة النمل - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)}.
يخبر تعالى عن عبده لوط عليه السلام، أنه أنذر قومه نقمة الله بهم، في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي إتيان الذكور دون الإناث، وذلك فاحشة عظيمة، استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء- قال {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أي: يرى بعضكم بعضًا، وتأتون في ناديكم المنكر؟
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أي: لا تعرفون شيئًا لا طبعًا ولا شرعًا، كما قال في الآية الأخرى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165، 166].
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي: يتحرجون من فعل ما تفعلونه، ومن إقراركم على صنيعكم، فأخرجوهم من بين أظهركم فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم. فعزموا على ذلك، فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها.
قال الله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: من الهالكين مع قومها؛ لأنها كانت ردءًا لهم على دينهم، وعلى طريقتهم في رضاها بأفعالهم القبيحة، فكانت تدل قومها على ضيفان لوط، ليأتوا إليهم، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبي الله صلى الله عليه وسلم لا كرامة لها.
وقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي: حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد؛ ولهذا قال: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} أي: الذين قامت عليهم الحجة، ووصل إليهم الإنذار، فخالفوا الرسول وكذبوه، وَهمُّوا بإخراجه من بينهم.


{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)}.
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي: على نعَمه على عباده، من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وعلى ما اتصف به من الصفات العُلى والأسماء الحسنى، وأن يُسَلِّم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم، وهم رسله وأنبياؤه الكرام، عليهم من الله الصلاة والسلام، هكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره: إن المراد بعباده الذين اصطفى: هم الأنبياء، قال: وهو كقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180- 182].
وقال الثوري، والسدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم أجمعين، وروي نحوه عن ابن عباس.
ولا منافاة، فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى، فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى، والقصد أن الله تعالى أمر رسوله ومن اتبعه بعد ما ذكر لهم ما فعل بأوليائه من النجاة والنصر والتأييد، وما أحل بأعدائه من الخزي والنكال والقهر، أن يحمدوه على جميع أفعاله، وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار.
وقد قال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عمارة بن صَبِيح، حدثنا طَلْق بن غنام، حدثنا الحكم بن ظُهَيْر، عن السدي- إن شاء الله- عن أبي مالك، عن ابن عباس: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه، رضي الله عنهم.
وقوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ}: استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى.
ثم شرع تعالى يبين أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره، فقال: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} أي: تلك السموات بارتفاعها وصفائها، وما جعل فيها من الكواكب النيرة والنجوم الزاهرة والأفلاك الدائرة، والأرض باستفالها وكثافتها، وما جعل فيها من الجبال والأوعار والسهول، والفيافي والقفار، والأشجار والزروع، والثمار والبحور والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وغير ذلك.
وقوله: {وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي: جعله رزقا للعباد، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} أي: بساتين {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي: منظر حسن وشكل بهي، {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} أي: لم تكونوا تقدرون على إنبات شجرها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق، المستقل بذلك المتفرد به، دون ما سواه من الأصنام والأنداد، كما يعترف به هؤلاء المشركون، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63] أي: هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق، وإنما يستحق أن يُفرَدَ بالعبادة مَن هو المتفرد بالخلق والرزق؛ ولهذا قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: أإله مع الله يعبد. وقد تبين لكم، ولكل ذي لب مما يعرفون به أيضًا أنه الخالق الرازق.
ومن المفسرين من يقول: معنى قوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: أإله مع الله فعل هذا. وهو يرجع إلى معنى الأول؛ لأن تقدير الجواب أنهم يقولون: ليس ثَمَّ أحدٌ فعل هذا معه، بل هو المتفرد به. فيقال: فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقل المتفرد بالخلق والتدبير؟ كما قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17].
وقوله هاهنا: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ}: {أمن} في هذه الآيات كلها تقديره: أمن يفعل هذه الأشياء كَمَنْ لا يقدر على شيء منها؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الآخر؛ لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك، وقد قال: {آلله خير أما يشركون}.
ثم قال في آخر الآية: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي: يجعلون لله عدلا ونظيرًا.
وهكذا قال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] أي: أمن هو هكذا كَمَنْ ليس كذلك؟ ولهذا قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} [الزمر: 9]، {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]، وقال {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] أي: أمَنْ هو شهيد على أفعال الخلق، حركاتهم وسكناتهم، يعلم الغيب جليله وحقيره، كَمَنْ هو لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر من هذه الأصنام التي عبدوها؟ ولهذا قال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد: 33]، وهكذا هذه الآيات الكريمات كلها.


{أَمْ مَنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)}.
يقول: {أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا} أي: قارة ساكنة ثابتة، لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بهم، فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة، بل جعلها من فضله ورحمته مهادًا بساطًا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك، كما قال في الآية الأخرى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [غافر: 64].
{وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} أي: جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة تشقها في خلالها، وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك، وسيرها شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالا بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم حيث ذرأهم في أرجاء الأرض، سَيَّرَ لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أي: جبالا شامخة ترسي الأرض وتثبتها؛ لئلا تميد بكم {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} أي: جعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزًا، أي: مانعًا يمنعها من الاختلاط، لئلا يفسد هذا بهذا وهذا بهذا، فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقاء كل منهما على صفته المقصودة منه، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس. والمقصود منها: أن تكون عذبة زلالا تسقى الحيوان والنبات والثمار منها. والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب، والمقصود منها: أن يكون ماؤها ملحًا أجاجًا، لئلا يفسد الهواء بريحها، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53]؛ ولهذا قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: فعل هذا؟ أو يعبد على القول الأول والآخر؟ وكلاهما متلازم صحيح، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي: في عبادتهم غيره.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8